فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبدًا على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه، و(القدم) بمعنى السبق مجازًا، لكونه سببه وآلته، كما تطلق (اليد) على النعمة، و(العين) على الجاسوس، و(الرأس) على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، فهو مجاز بمرتبتين أو (القدم) بمعنى المقام كـ: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: من الآية 55]، بإطلاق الحال وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله (قدمٌ صدقٌ) أي: محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم، ظاهرًا وباطنًا.
قال في الانتصاف: ولم يرد في سابقة السوء تسميتها (قدمًا) إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردًا، ولكن غلب العرف على قصرها، كما يغلب في الحقيقة.
{قَالَ الْكَافِرُونَ} وهم المتعجبون: {إِنَّ هَذَا} أي: الكتاب الحكيم: {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: ظاهر. وقرئ (لَسَاحِرٌ) على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه. وهو دليل عجزهم واعترافهم، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرًا، وذلك لأن التعجب أولًا، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعًا، حتى عند نفس المعارض، دأب العاجز المفحَم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن جملة {تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالًا عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبيّن أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعادَ إحالة.
وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دَعا إليه وتجهيل المتسببين فيه، ولك أن تجعله استئنافًا ابتدائيًا، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث.
فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة.
وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على (كان) دون أن يقال: أعجِبَ الناسُ، هي الدلالة على التعجيب من تَعَجُّبهم المراد به إحالة الوحي إلى بَشر.
والمعنى: أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعَرَ بأن هذا غير متوقَّع حصوله.
و{للناس} متعلق بـ {كَان} لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم، لأن أصل اللام أن تفيد الملك، ويستعار ذلك للتمكن، أي لتمكن الكون عجبًا من نفوسهم.
و{عَجبًا} خبر {كان} مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار.
و{أنْ وأحينا} اسم كان، وجيء فيه بـ (أنْ) والفعل دون المصدر الصريح وهو وَحْينا ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقًا لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمدًا.
والعجب: مصدر عَجِب، إذا عَدَّ الشيءَ خارجًا عن المألوف نادر الحصول.
ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيبًا جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأوْلى ويَقلع التكذيب من عروقه.
ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع، كما في قوله تعالى: {قالت يا ويْلتي أألِدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخًا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله} في سورة [هود: 72، 73] وقوله: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم} في سورة [الأعراف: 63].
وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كانَ إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا يُوحى إليهم} [النحل: 43] وقال: {ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلًا} [الأنعام: 9] وقال: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكًا رسولًا} [الإسراء: 95].
وأطلق {الناس} على طائفة من البشر، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام.
وهذا الإطلاق مثل ما في قوله: {إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173].
وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: الله أعظم من أن يكون له رسول بشرًا، فأنزل الله تعالى: {أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس}.
و{أن} في قوله: {أن أنذر الناس} تفسيرية لفعل {أوحينا} لأن الوحي فيه معنى القول.
و{الناس} الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم، فهو عموم عرفي.
ولكون المراد بـ {الناس} ثانيًا غير المراد به أولَ ذُكر بلفظه الظاهر دون أن يقال: أن أنذرهم.
ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمرُ بالتبشير للذين آمنوا بقي {الناس} المتعلق بهم الإنذار مخصوصًا بغير المؤمنين.
وحذف المنذر به للتهويل، ولأنه يُعلم حاصله من مقابلته بقوله: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قَدَم صدق}، وفعل التبشير يتعدى بالباء، فالتقدير: وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق، فحذف حرف الجر مع (أنَّ) جريًا على الغالب.
والقَدم: اسم لما تَقدم وسلَف، فيكون في الخير والفضل وفي ضده.
قال ذو الرمة:
لكم قَدم لا ينكِر الناس ألها ** مع الحَسَب العادِيّ طَمَّت على البحر

وذكر المازري في المُعْلم عن ابن الأعرابي: أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة.
وهو فَعَل بمعنى فاعل مثل سلَف وثَقَل.
قال ابن عطية: ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم: «حتى يضع رب العزة فيها قَدَمه فتقول قط قط» يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبيء الله صلى الله عليه وسلم ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة (وفي رواية الجبار) فيها قدمه فتقول قط قط، وعزتك.
ويُزوَى بعضُها إلى بعض.
وهذا أحد تأويلين لمعنى «قَدمه».
وأصل ذلك في المُعلم على صحيح مسلم للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل.
والمراد بـ {قدم صدق} في الآية قدم خَير، وإضافة {قدم} إلى {صِدق} من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وأصله قدمٌ صِدقٌ، أي صادق وهو وصف بالمصدر: فعلى قول الجمهور يكون وصف {صدق} لـ {قدم} وصفًا مقيِّدًا.
وعلى قول ابن الأعرابي يكون وصفًا كاشفًا.
والصدق: موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد، واشتهر في مطابقة الخَبر.
ويضاف شيء إلى (صدق) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق} [يونس: 90] وقوله: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 55].
وقوله: {أن أنذر الناس} تفسير لفعل {أوحينا}.
وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم.
وأيضًا في ذكر المفسِّر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية.
{قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ}
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {أكان للناس عجبًا} الخ.
ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبئ عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول: {إن هذا لسحر مبين} [يونس: 76] أو {إن هذا لساحِر مبين} فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة {أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا}.
وقرأه الجمهور {لسِحْر} بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر، أي أن هذا الكلام كلام السحرِ، أي أنه كلام يُسحر به.
فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلامًا غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة، فالإشارة إلى الوحي.
وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي {لسَاحر} فالإشارة إلى رجل من قوله: {إلى رجل منهم} وهو النبي صلى الله عليه وسلم وإن وصفهم إياه بالسحر ينبئ بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذيانًا وباطلًا فهرعوا إلى ادعائه سِحرًا، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالًا تستنزل عقول المسحورين.
وهذا من عجزهم من الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه.
والسحر: تخييل ما ليس بكائن كائنًا.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {يعلمون الناس السحر} في سورة [البقرة: 102].
والمبين: اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان، أي ظهر، أي سحر واضح ظاهر.
وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} ما هو العجيب- إذن- في أن الله أوحى إلى رجل منكم أن يبلغكم إنذار الله وبشارته؟ ما الذي تعجبتم منه؟ وما موضع العجب فيه؟ وجاء تحديد العجب فيه ما ذكرته الحيثية في آخر السورة السابقة من أنه: {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} [التوبة: 128].
أي: من البشر، ومن العرب، ومن قبائلكم، ومن أنفسكم ممن تعرفون كل خُلُقه، فما العجيب في أن يرسله الله رسولًا إليكم؟ إنكم قد ائتمنتموه على أموركم من قبل أن ينزل عليه الوحي من الله، فكأنكم احترمتم طبعه الكريم، وأنكم في كثير من الأشياء قبلتم منه ما يصل إليه من أحكام.
ودليل هذا أنكم حين اختلفتم في بناء الكعبة، وقالت كل قبيلة: نحن أولى بأن نضع بأيدينا أقدس شيء في الكعبة، وهو الحجر، حين ذلك اختلفت القبائل؛ فما كان إلا أن حَكَّموا أول داخل؛ فشاء الله أن يكون أول داخل هو محمد بن عبد الله، فكيف يحل محمد بن عبد الله هذه المشكلة، ولم يكن قد نزل عليه وحي بعد؟ إنها الفطرة التي جعلته أهلًا لاستقبال وحي الله فيما بعد، فماذا صنع؛ لينهي هذا الخلاف؟
جاء برداء، ووضع الحجر على الرداء، ثم قال لكل قبيلة: أمسكوا بطرف من الرداء، واحملوا الحجر إلى مكانه. وتلك هي الفطرة السليمة. ورأينا أيضًا سيدنا أبا بكر عندما قالوا له وهو راجع من الرحلة التي كان يقوم بها: لقد ادعى صاحبك النبوة، قال: إن كان قد قالها فقد صدق.
من أي أحداث جاء حكم أبي بكر. أهو سمع من رسول الله كلامًا معجزًا؟ أسمع منه قرآنًا؟ لا، بل صدٌّقه بمجرد أن أعلن أنه رسول. فقد جربه في كل شيء ووجده صادقًا، وجربه في كل شيء ووجد أنه أمين، فما كان محمد لِيصْدُقَ فيما بين البشر، ليكذب على الله.
وكذلك خديجة بنت خويلد حينما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتيني كذا وأخاف أن يكون كذا، فبينت له أن المقدمات التي في حياته لا توحي بأن الله يخذله ويفضحه ويسلط عليه الجن: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ وتنصف المظلوم، ولن يخزيك الله أبدًا» وبذلك كانت السيدة خديجة أول فقيه مستنبط في الإسلام.
وقوله سبحانه: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} يعني: التعجب من أن يصدر منهم العجب، والقرآن يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب؟ وما دام يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب؟ فمن المنطقي ألا يكونوا قد تعجبوا؛ لأنك حين تتعجب من شيء فإما أن تتعجب منه؛ لأنه بلغ من الحسن مبلغًا فوق مستوى ما تعرف من البشر، مثلما ترى صنعة جميلة وتقول: ما أحسن هذه الصنعة، ونتساءل: ما الذي جعل هذه الصنعة جميلة إلى هذا الحد غير المتصور؟
وأنت تقول ذلك؛ لأن الصنعة قد بلغت من الجمال مبلغاص لا تصدق به أن أحدًا من الموجودين في إمكانه أن يصنعها.
والمثال على ذلك: نجد من يقول: ما أحسن السماء؛ وهو يتعجب من الشيء الذي يفوق تصوره. وقد يتعجب من شيء قبيح، ما كان يجب أن يرد على الخاطر، ولذلك يقول القرآن: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله...} [البقرة: 28].
أي: قولوا لنا: كيف قبلتم لأنفسكم الكفر؟
لأن الكفر مسألة عجيبة تتنافى مع الفطرة.
وهنا يقول الحق: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ...} [يونس: 2].
وهنا نتساءل: كيف تتعجبون وقد جئناكم برسول من أنفسكم، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
أليس هذا هو المطلوب في الرائد، فكيف تعجبون؟.
إن عجبكم يدل على أن بصيرتكم غير قادرة على الحكم على الأشياء، وما كان يصح أن يُستقبل الرسول بالعجب، ونحن نتعجب من عجبكم هذا.
وحين تتعجب من العجب؛ فأنت تبطل التعجب.
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ...} [يونس: 2].
أي: أن إيحاءنا لرجل منكم كان عجيبًا عندكم، وما كان يصح أن يكون أمرًا عجيبًا؛ لأنه أمر منطقي وطبيعي.